الرئيسية
|
من نحن
|
هيئة التحرير
|
وظائف
|
إعلن معنا
|
اتصل بنا
الخميس 17 أبريل 2025 -04:53 القاهرة
عاجل
الرئيسية
أسواق مال
بنوك و تأمين
اقتصاد مصر
عقارات
إتصالات
سياحة
أسواق عالمية
سياسة
المزيد
سيارات ونقل
زراعة
رياضة
طيران
صحة ومرأة
فن وثقافة
كاريكاتير
صحافة وتوك شو
الخدمات التفاعليه
المفكرة الاقتصادية
الكوبونات
الأسهم المجانية
مواعيد الجمعيات
المعاملات الداخلية
عمليات الأستحواذ
احداث عامة
أسعار العملات
راديو الرأى
انفوجرافيك
خريطة الأسواق
فيديو
أعداد المجلة
أخـــر الاخبار
البورصة تنخفض بـ 0.49% في ختام جلسة الأربعاء.. و"السوقي" يغلق دون تغيير
87 مليار ريال حجم التبادل التجاري بين السعودية و دول الجامعة العربية في الربع الأخير من 2024م
تباين مؤشرات البورصة المصرية خلال منتصف تعاملات الأربعاء
هبوط جماعى لمؤشرات البورصة في مستهل التعاملات الصباحية
ارتفاع طفيف بمؤشرات البورصة المصرية في ختام جلسة الثلاثاء
"الجهات الأربع" تقود حضوراً سعودياً قوياً على مستوى العالم في قطاع الخدمات اللوجستية
سفير السعودية لدى مصر يلتقي وزير قطاع الأعمال المصري
مؤشرات البورصة تواصل ارتفاعها بمنتصف التعاملات مدفوعة بمشتريات محلية وعربية
المنتدى الدولي للأمن السيبراني يعقد نسخته الخامسة في الرياض أكتوبر المقبل
صعود جماعي لمؤشرات البورصة في مستهل تعاملات جلسة منتصف الأسبوع
الصفحة الرئيسية
>
>
المقالات
د. محمد أبو أحمد
فن العيش الحكيم ..
الثلاثاء 08 أبريل 2025 -02:10
كثيرًا ما تختلط الأمور علينا.. فلا نتمكن من التفرقة بين الواقع والوهم.. ولا نستطيع أن نعرف ما الفرق بين الواقع الذي نعيشه وما نتمناه ، ما هو الحزن وما هي السعادة، ولكن في أعماق كلا منا رغبة جامحة في حياة هانئة مطمئنة بها ما يكفي من لحظات السعادة .
وفي هذا السياق يُقدِّم الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور في كتابه «فن العيش الحكيم» رؤية فلسفية حول كيفية تحقيق السعادة في الحياة، وذلك من خلال خمسين قاعدة للحياة استخلصها من تأملاته وتجربته الشخصية.
ورغم أن شوبنهاور معروف بنزعته التشاؤمية واعتباره الحياة «شرًا مطلقًا»، فقد جاء هذا الكتاب أشبه بدليل عملي لـفن السعادة في نظر فيلسوف يتبنّى سوداوية الواقع.
يستند شوبنهاور إلى قناعات فكرية وخبرات حياتية كوَّنتها ظروف معيشته الصعبة، ليطرح نموذجًا للحياة الحكيمة بعيدًا عن التكلف أو التفاؤل السطحي.
في هذه المراجعة، سنستعرض الأفكار المركزية للكتاب، من مفهوم السعادة ودور العزلة والاستقلال الداخلي، إلى نقد التفاعل الاجتماعي والفروق بين سعادة الفرد وسعادة الآخرين. مفهوم السعادة عند شوبنهاور يتعامل شوبنهاور مع السعادة بوصفها حالة سلبية في جوهرها وليست شعورًا إيجابيًا. فهو يرى أن الحياة السعيدة ليست تلك المترفة باللذائذ، بل الخالية من الألم والمعاناة.
يقول شوبنهاور بصراحة إنّ كل لذّة أو متعة ذات طبيعة سالبة (أي إنها مجرد زوال للألم أو نقصانه)، بينما الألم هو الحقيقة الموجبة في الحياة. بناءً على ذلك، تصبح غاية الحياة الحكيمة هي تقليل الألم والحرمان قدر الإمكان، بدلًا من اللهاث خلف ملذّات زائلة. فالإنسان كلما ارتقى فكريًا واستغرق في التأمل والمعرفة المجردة، استطاع أن يبتعد عن مواطن الألم المباشر، وبالتالي يصبح “أسعد المخلوقات” بمقياس شوبنهاور.
إن السعادة عنده شبيهة براحة المحارب بعد عناء المعركة أكثر منها احتفالًا صاخبًا بانتصارات القدر؛ إنها سلام داخلي ينشأ من غياب المعاناة وطمأنينة النفس، لا وفرة الملذات الحسية.
يشير شوبنهاور إلى تقسيم أرسطو للخير في حياة الإنسان إلى ثلاثة أنواع: الخيرات الخارجية (كالثروة والمنصب)، والخيرات البدنية (كالصحة والجمال)، والخيرات النفسية أو المعنوية (كالفضيلة والعقل).
وينطلق شوبنهاور من هذا التقسيم ليحدّد ثلاثة عوامل تحكم سعادة الإنسان: الكيان أو الكينونة (ما يكونه المرء في ذاته): ويشمل ذلك شخصية الإنسان بمعناها الواسع، صحته وقوته البدنية وجماله ومزاجه وأخلاقه وذكائه. هذا العامل يعبر عن جودة الإنسان الجوهرية. الملكية (ما لدى المرء من ممتلكات): أي ما يملكه من أموال ومقتنيات مادية خارجية. السمعة أو التمثّل (ما يمثّله المرء في أعين الآخرين): أي نظرة الناس له ومكانته الاجتماعية وسمعته بينهم.
يرى شوبنهاور أن العامل الأول، أي ماهيّة الإنسان الداخليّة، هو الأهم وحاسم التأثير في تقرير سعادته أو شقائه، مقارنةً بالعوامل الأخرى الخاضعة لنظر الناس وتقييمهم. فما يحمله المرء في داخله ويصحبه إلى عزلته، ولا يستطيع أحد أن يمنحه إياه أو يسلبه منه، هو أمر جوهري بأضعاف مقارنة بكل ما يملكه من متاع أو ما يمثله في عيون الآخرين.
يوضّح شوبنهاور بذلك أن مركز الثقل للسعادة الحقيقيّة هو أعماق الذات: فالشخص ذو العقل الراجح والقلب الكبير يمتلك كنزًا داخليًا يرافقه أينما ذهب، بخلاف من يستمد قيمته من أموال زائلة أو مديح الناس المتقلّب.
وقد شبّه شوبنهاور المزايا الشخصية (كالذكاء والفضيلة) بـ«الملوك الحقيقيين»، في حين أن مظاهر الثراء والنسب النبيل أشبه بـ«ممثّل يلعب دور الملك على خشبة المسرح»، أي أن الهالة الخارجية خادعة وزائلة، بينما الجوهر الداخلي صادق ومستدام.
من هذا المنطلق، تصبح السعادة تجربة فردية داخلية؛ فالأحداث الخارجية لا تؤثر فينا إلا بقدر ما تسمح به طبيعتنا الداخلية وإدراكنا الذاتي لها. لكل فرد منا طريقة إدراك تختلف عن الآخر، وبالتالي تتباين سعادتنا تبعًا لاختلاف ذواتنا أكثر مما تتباين وفقًا للظروف الموضوعية المحيطة.
دور العزلة كطريق إلى الحرية تشغل العزلة مكانة محورية في فلسفة شوبنهاور للسعادة. فهو يعتقد أن الإنسان لا يكون على حقيقته التامة إلا عندما يكون وحيدًا. يقول في إحدى أشهر عباراته: «لا يكون المرء مطابقًا لذاته إلا إذا كان بمفرده.
لذلك، فالكاره للعزلة كاره للحرية، إذ لا نكون أحرارًا إلا في عزلتنا». فالحرية الحقيقية عند شوبنهاور مرادفة لقدرة الإنسان على الانفراد بنفسه، بعيدًا عن ضجيج المجتمع وإكراهاته.
كلما ازداد المرء عزلةً ازداد تحررًا، لأن وجود الآخرين، مهما حسنت نواياهم، يفرض قيودًا وإلزامات اجتماعية.
وكما ورد في الكتاب: «فكل اختلاط بالناس يلازمه الإكراه لزوم الظل لصاحبه، ويفرض على المُخالِط تقديم تضحيات وتنازلات باهظة بمقاييس الميالين بطبعهم إلى الانفراد والعزلة».
أي أن مجرد مشاركتنا في المجتمع يجعلنا نضحي بجزء من استقلالنا لإرضاء المعايير الجماعية والانسجام مع الآخرين.
من منظور شوبنهاور، العزلة هي ميدان اختبار جودة الإنسان. فهو يرى أنها “الميزان الذي تُقاس به جودة الأشخاص”، فالشخص الذي يعشق الوحدة وينعم بها هو الأقدر على الارتقاء في مصاف النخبة الفكرية والروحية، أما الذي يهرب منها باستمرار فربما يفتقر إلى الغنى الداخلي. يقول شوبنهاور إن البائس يكره وحدته لأنه في عزلته يواجه بؤسه الخاص وجهاً لوجه، فيشعر بكل جوارحه بضآلته وعدم رضاه عن نفسه؛ ولذا تراه يفرّ إلى صحبة الناس هربًا من هذا الشعور.
أما الراقي "nobler" فنجده على العكس تمامًا.. يستشعر عظمته وسموّه بكل جوارحه في خلوته، إذ تزدهر قواه الفكرية والروحية حينما ينصرف عن المجتمع إلى عالمه الداخلي.
هكذا تكون متعة التأمل والانفراد بالنفس عند ذوي العقول الرفيعة متعةً لا تضاهيها أي ملذة اجتماعية أخرى. يصل شوبنهاور إلى حد القول بأن من يجمع بين عزلة الجسد وعزلة الفكر في تناغم تام، فإنه يحقق أقصى درجات الحرية والسعادة الممكنة للكائن البشري.
على أن هذا المديح للعزلة لا يعني عداءً مطلقًا للبشر، بل هو تأكيد على ضرورة توافر فضاء خاص للفرد يعيش فيه وفق إيقاعه الخاص ويتأمل ذاته والعالم دون تشتت؛ فضاء يصون فيه حريته النفسية بعيدًا عن ضغط الجماعة.
فالعزلة لدى شوبنهاور ليست وحشةً سلبية، وإنما هي شرط للحرية الشخصية ومصدر للإلهام والحكمة. قيمة الاستقلال الداخلي ترتبط العزلة عند شوبنهاور بقيمة أعمق هي الاستقلال الداخلي أو الاكتفاء الذاتي (Selbstgenügsamkeit). والمقصود هنا هو أن يجد الإنسان سعادته داخل نفسه، معتمدًا على ثروته الفكرية والروحية الخاصة، بدل أن يستمد شعوره بالرضا من مصادر خارجية متقلّبة.
يؤكد شوبنهاور أن الإنسان الحكيم يبقى راضيًا ما دام عالمه الداخلي عامرًا، حتى لو كانت ممتلكاته المادية محدودة أو كانت سمعته عند الناس عادية.
فمن كانت نفسه غنية لن يفتقر أبدًا إلى ما يسعده، يصاحبه عقله وقلبه في عزلته كخير جليس.
هذا الاستقلال النفسي هو الذي يمنح المرء مناعة أمام تقلبات الدهر؛ فإذا خسر مالًا أو منصبًا لا تنهار دنياه، وإذا تجاهله الناس أو انتقدوه لا يتزعزع اتزانه، لأنه يستند إلى ركن راسخ في داخله لا تهزه رياح الخارج.
إن الاستقلال الداخلي لدى شوبنهاور يتطلب تطوير الاهتمامات الذاتية كالقراءة والتأمل والفنون، بحيث تصبح لهذه الأنشطة قيمة جوهرية تغنيه عن اللهث وراء متع خارجية أو صحبة قد لا تضيف له شيئًا. فهو ينصح بالاستغراق في التأمل الفلسفي والمعرفة المجردة، حيث أن المعرفة الخالصة تمنح صاحبه قدرًا من السكينة لأنها بطبيعتها بعيدة عن الألم. كذلك يشجع على تبنّي شيء من روح الزهد؛ ليس الزهد بمعنى الحرمان القسري، بل بمعنى عدم الارتهان للأشياء أو السماح لها بالسيطرة على سعادتنا.
فكلما قلّت تعلقات المرء الدنيوية، قلّت مواطن ضعف سعادته. ومن يمتلك إرادة قويّة تضبط الرغبات الجامحة، يستطيع أن يحيا قانعًا بما لديه ومستقلًا عن إملاءات المجتمع المادي.
بهذا المعنى، يُمكن القول إن شوبنهاور يدعو إلى حرية داخلية يكسبها الفرد عندما يتحرر من عبودية الرأي العام ومن إغراء المكاسب الزائلة. إنه استقلال أشبه بحصن منيع، من خلاله امتلك زمام سعادته بنفسه. ولا يفوت شوبنهاور التنبيه إلى أن هذا الاستقلال لا يعني الأنانية المفرطة أو انعدام التعاطف؛ فالرجل الذي تكفيه ذاته قد يكون أقدر من غيره على مد يد العون للآخرين إن احتاجوا، لأنه يفعل ذلك من موقع الاكتفاء لا التعلق.
ولكن في سياق بحثه عن السعادة، يركّز شوبنهاور على أن مصدر الشقاء الرئيسي هو تعليق سعادتنا على ما هو خارج إرادتنا. والإنسان المستقل داخليًا يقلّل من هذه التعلقات، فيصبح أقدر على التحكم بمزاجه وسلامه النفسي.
إنه يُذكّرنا بمقولة الرواقيين: سعيدٌ من كان يريد ما يحدث له، لا من يحدث له ما يريده، أي أن تكون سعادتك نابعة من رضاك الداخلي لا من استجابة الواقع لأمنياتك.
وهنا يلتقي تفكير شوبنهاور مع حكماء الشرق والغرب الذين جعلوا السعادة قرارًا ذاتيًا وموقفًا روحيًا قبل أن تكون ظروفًا موضوعية.
نقد التفاعل الاجتماعي والمجتمع بطبيعة الحال، يمتدح شوبنهاور العزلة والاستقلال الداخلي على حساب التفاعل الاجتماعي المفرط. فهو يُوجّه نقدًا لاذعًا لكثير من العلاقات الاجتماعية السطحية التي يراها قائمة على النفاق أو المصالح المؤقتة.
في نظره، الاختلاط الدائم بالناس قد يُفسد طوية الفرد ويبدد وقته وراحته. يصف شوبنهاور عامة الناس بأنهم مشغولون بالتفاهات والمؤامرات الصغيرة؛ فالشاب اليافع قد يجد في مشاركتهم تلك الملهاة والعزاء المؤقت عن مشاكله، لكن هذا، برأي شوبنهاور، ليس سوى دليل على نزعته السوقيّة وضحالة فكره.
أما الشاب أو الإنسان الفطن، فنراه حائرًا صامتًا في وسط الجموع، كأنه سمكة خرجت من الماء، لا ينسجم مع مكائدهم وضجيجهم. هذا النموذج الأخير يبشّر بخير، فهو الإنسان الذي سرعان ما يميل بطبعه إلى تفادي الناس كلما تقدم به العمر. فبعد أن يختبرهم جيدًا، “يضع كل واحد منهم في منزلته الحقّة” ويزول انخداعه بالمظاهر.
حينها تنمو لديه غلالة من النفور تجاه البشرية العادية ويميل إلى اعتزالها، ليس كرها فيهم فردًا فردًا بالضرورة، بل حبًا في صفائه الخاص الذي تعكره كثرة المخالطة. ينتقد شوبنهاور أيضًا اللهاث وراء رضا الآخرين والسعي إلى نيل الإعجاب الاجتماعي كمصدر للسعادة.
فمثل هذا السعي عبثي في نظره لأن آراء الناس متقلبة ومعاييرهم زائفة.
الشهرة والمكانة الاجتماعية أمور قد تخدع صاحبها فتشعره بقيمة مزيفة، لكنها في الحقيقة لا تزيد أو تنقص من سعادة الفرد الحقيقية شيئًا.
وقد شبّه سمعة المرء في أعين الناس بالظل الذي يصاحبه – شيء لاحق به لا جزء من جوهره. لذلك فإن الانشغال الدائم بالمجتمع – إما خوفًا من أحكامه أو رغبةً في مديحه – هو شكل من أشكال الإكراه التي تقيد حرية الإنسان وسعادته.
فكلما ازداد المرء ارتهانًا للجماعة، اضطر لتقديم تنازلات مؤلمة في سلوكه وتفكيره لينال القبول، وهذا بالتالي يبعده عن عفويته وعن سعادته البسيطة.
يرى شوبنهاور أن معظم الناس “ثلثي البشرية” – كما يصفهم – لا يملكون عمقًا فكريًا، وبالتالي فإن قضاء الوقت معهم غالبًا ما يكون هدرًا إن لم يجلب الأذى.
بالطبع لا يدعو شوبنهاور إلى قطع وشائج التعاطف الإنساني أو العيش في عزلة تامّة قسرية، لكنه يقترح الاعتدال: صحبة محدودة منتقاة بحكمة، ومخالطة الناس بقدر ما تقتضيه الحاجة وبما لا يطفئ نور العقل وراحة البال.
فالصداقة الحقيقية نادرة وثمينة، وينبغي أن تقوم على التقارب الفكري والوجداني العميق، لا على مجرد العادة أو المصلحة.
أما العلاقات العابرة الكثيرة، فهي برأيه تزيد الضوضاء في حياة المرء من دون مردود حقيقي. لذا، فمن الحكمة أن يحافظ الإنسان على مسافة كافية بينه وبين الحشود، بحيث يصون فرديته واستقلاله، ولا يضحي بسعادته إرضاءً لعقلية الجماعة أو مجاراةً لها.
سعادة الذات في مقابل سعادة الآخرين يُفرّق شوبنهاور بوضوح بين سعادة الفرد الخاصة وبين ما يعتقده الناس عن السعادة أو ما يظهر من سعادة الآخرين. فهو يدعو المرء إلى أن يكون تركيزه منصبًا على تحقيق راحته الداخلية بدل مقارنة حاله بحال غيره. ويذكّرنا بأن لكل إنسان عالمه الداخلي الفريد الذي قد يختلف تمامًا عمّا يبدو خارجيًا. كثيرًا ما ننخدع بالمظاهر فنظن فلانًا أسعد حالًا منّا لأن ظروفه المادية أو الاجتماعية أفضل، ولكن لو اطلعنا على باطنه لرأينا ربما همومًا وآلامًا خفيّة تفوق ما لدينا. يؤكد شوبنهاور أن المقارنة الاجتماعية مصدر رئيسي للتعاسة؛ فالإنسان يفسد رضا قلبه عندما يبدأ بالنظر إلى ما عند الآخرين بدلًا مما عنده. لذلك فإن سعادة الذات ينبغي أن تُقاس بمعايير الفرد نفسه – بطبيعته وتطلعاته وقيمه الخاصة – لا بمقاييس الآخرين. ليس بالضرورة ما يُسعد غيرك يُسعدك أنت. قد يجد شخصٌ سعادته في عزلة هادئة مليئة بالتأمل، بينما يراها آخر جحيمًا لا يُطاق. وقد يهنأ إنسانٌ بمستوى معيشي متواضع لكن قلبه قانع، بينما يملك غيره المال الوفير ومع ذلك يشقى بسخطه الداخلي. الفروق في الطباع والاستعدادات تجعل السعادة تجربة نسبية جدًا لا يمكن مقارنتها من شخص لآخر. ثمّة جانب آخر لـسعادة الآخرين يتناوله شوبنهاور بنظرة ناقدة، وهو السعي إلى إسعاد الآخرين على حساب الذات. فرغم تقديره للأخلاق والطيبة، يحذر من أن تضحية المرء بسعادته إرضاءً للآخرين بشكل مستمر قد تنقلب وبالًا عليه. إذا عاش الإنسان فقط ليحقّق توقعات المجتمع أو ليسعد أقاربه ومعارفه وهو ذاته غير سعيد، فإنه يخالف الطبيعة الإنسانية التي تقضي أن يعتني المرء أولًا بروحه. لسنا نتحدث هنا عن الأنانية الضيقة، بل عن فهم حدود المسؤولية: لا يمكنك أن تحمل همّ إسعاد جميع البشر، فذلك فوق طاقة أي فرد. كما أن فرط إرضاء الآخرين قد يجعلهم يعتمدون عليك أو يستغلونك، فتفقد احترامك لذاتك وسعادتك في النهاية. الأفضل عند شوبنهاور أن يسعى المرء إلى التوازن: يهتم بسعادته الذاتية عبر الاستقلال والاعتدال، وفي الوقت نفسه لا يقسو على من حوله بل يتعاطف ويقدم الخير بقدر استطاعته دون أن يفني نفسه لأجلهم. وربما لهذا شدّد شوبنهاور على قيمة العدالة وحسن المعاملة في حدود المعقول، لكنه لم يُعلِ من شأن التضحية المستمرة أو توقير رأي الآخرين حين يكون الثمن فقدان المرء لذاته. سعادة كل فرد هي مسؤوليته الخاصة أولًا وأخيرًا؛ وإن كلّف نفسه عناء إصلاح دنيا غيره بينما تُهمَل نفسيته، فقد يخسر الاثنان معًا. على صعيد آخر، ينبّه شوبنهاور إلى خطر الحسد كآفة تربط سعادة المرء بسعادة الآخرين بشكل سلبي. فالحاسد يربط راحته بزوال ما يمتع الآخرين، وهنا يبلغ أقصى درجات الارتهان للغير. الحسد نقيض الرضا، وهو اعتراف ضمني بتفوق الآخرين علينا، ما يولد شعورًا بالدونية والتعاسة الدائمة. لذا، يدعو شوبنهاور للتحرر من عقدة المقارنة؛ فكلما نظر الإنسان إلى ما في أيدي الناس قلّت متعته بما في يديه. السعيد حقًا من أحبَّ لنفسه ما يحبّه لذاته بعيدًا عن ضجيج المقارنات الاجتماعية. فالرضا الداخلي ينمو حين يغلق المرء آذانه عن ما يظنه الآخرون “سعادة”، ويصغي لصوته الداخلي ليحدد ما يجعله هو راضيًا ومطمئنًا. بين التشاؤم وحكمة العيش السعيد جمع شوبنهاور في «فن العيش الحكيم» خلاصة فلسفته العملية عن الحياة الطيبة في صيغة سلسة أقرب إلى دليل أخلاقي وتأملي منها إلى بحث نظري جاف. ورغم شهرة شوبنهاور كـ“فيلسوف متشائم”، يكشف لنا هذا الكتاب وجهًا أكثر إشراقًا يتمثل في حرصه على تقديم نصائح واقعية للسعادة. إنه يدرك سوداوية الحياة، ولكنه مع ذلك يستخلص حِكمًا تساعد الإنسان على التعايش مع هذه السوداوية بأقل قدر من الألم وبأعلى درجة من الاستقلالية والكرامة. يعلّمنا شوبنهاور أن السعادة فنٌ صعب يتطلب موازنة دقيقة. أن نكون في الدنيا ولكن دون أن نتعلق بها كثيرًا، أن نخالط الناس دون أن نفقد أنفسنا، أن نستمتع بالملذات ولكن دون إفراط يقود للألم، وأن نعتصم بوحدتنا حين يلزم الأمر لنرمم فيها ذواتنا. هذه الموازنة الحكيمة هي جوهر العيش بتعقّل واتزان. لقد بقيت أفكار شوبنهاور هذه طيّ المخطوطات لأكثر من 150 عامًا قبل أن تُنشر، لكنها اليوم تبدو بالغة المعاصرة. ففي عالمنا الحديث المليء بالضجيج واللهاث وراء النجاح المادي والتفاعل الرقمي الدائم، تبرز دعوة شوبنهاور إلى التأمل والعزلة كدعوة ثمينة لإعادة التواصل مع الذات. إن العمق الفلسفي الذي كُتبت به هذه التأملات يمنحها بريقًا خاصًا؛ فهي ليست مجرد وصايا أخلاقية مبسّطة، بل خلاصات من تأملات عقلٍ نافذٍ في طبيعة الإنسان. أسلوب شوبنهاور – حتى في الترجمة العربية – يجمع بين الوضوح والإيجاز، وبين حدة النقد وشفافية البصيرة، مما يجعل قراءة الكتاب تجربة فكرية وأدبية ممتعة معًا. في نهاية المطاف، تؤكد الشوبنهاورية عبر هذا العمل أن السعادة ممكنة حتى في ظل نظرة تشاؤمية للعالم، إذا ما استطاع الإنسان أن يفهم نفسه جيدًا ويصوغ حياته وفق حكمته الخاصة. إنها سعادة هادئة مستقرة قوامها العقل والفضيلة والحرية الفردية، وهذه هي الرسالة الأسمى التي يحملها كتاب «فن العيش الحكيم»
كتاب فن العيش الحكيم، ابريل 2025.
المصادر: تعتمد هذه المراجعة على النص الألماني الأصلي لـ «Die Kunst, glücklich zu sein».
تعليقات القراء
أضف تعليق
الأسم
أدخل الأسم
البريد الألكنرونى
أدخل البريد الألكنرونى
البريد غير صحيح
التعليق
أدخل التعليق
تعليقات الفيس بوك
النماذج المطورة للمركبات المدرعة
الرئيس السيسي يتفقد عدد من النماذج المطورة للمركبات المدرعة
أحدث الاخبـــار
02:51
البورصة تنخفض بـ 0.49% في ختام جلسة الأربعاء.. و"السوقي" يغلق دون تغيير
01:52
87 مليار ريال حجم التبادل التجاري بين السعودية و دول الجامعة العربية في الربع ال...
12:50
تباين مؤشرات البورصة المصرية خلال منتصف تعاملات الأربعاء
10:56
هبوط جماعى لمؤشرات البورصة في مستهل التعاملات الصباحية
02:53
ارتفاع طفيف بمؤشرات البورصة المصرية في ختام جلسة الثلاثاء
02:06
"الجهات الأربع" تقود حضوراً سعودياً قوياً على مستوى العالم في قطاع الخدمات اللوج...
02:00
سفير السعودية لدى مصر يلتقي وزير قطاع الأعمال المصري
12:40
مؤشرات البورصة تواصل ارتفاعها بمنتصف التعاملات مدفوعة بمشتريات محلية وعربية
11:19
المنتدى الدولي للأمن السيبراني يعقد نسخته الخامسة في الرياض أكتوبر المقبل
11:01
صعود جماعي لمؤشرات البورصة في مستهل تعاملات جلسة منتصف الأسبوع
الأكثر قراءة
12:56
السعودية ترحب باستضافة سلطنة عُمان للمحادثات بين إيران وأمريكا
10:43
اتحاد الغرف التجارية السعودية يقيم حفل استقبال لأعضاء مجلس رجال الأعمال "السعودي...
02:49
البورصة تصعد بـ 1.18% في ختام جلسة الأحد.. و"السوقي" يربح 21 مليار جنيه
11:38
صعود جماعي لمؤشرات البورصة المصرية في مستهل تعاملات الأحد
01:34
السعودية تُدين وتستنكر الهجمات التي تعرضت لها مخيمات للنازحين حول مدينة الفاشر غ...
08:00
بمشاركة مصر.. وزارة الدفاع السعودية تستضيف الاجتماع الثامن لرؤساء أركان الدول أع...
12:34
البورصة المصرية تربح 14 مليار جنيه خلال منتصف التعاملات
04:36
وزير البترول يعتمد نتائج أعمال "سيدبك" خلال 2024.. ويشيد بدورها في دعم الصناعة و...
11:19
المنتدى الدولي للأمن السيبراني يعقد نسخته الخامسة في الرياض أكتوبر المقبل
02:06
"الجهات الأربع" تقود حضوراً سعودياً قوياً على مستوى العالم في قطاع الخدمات اللوج...
أسواق مال
بنوك و تأمين
اقتصاد مصر
عقارات
إتصالات
سياحة
أسواق عالمية
سياسة
ألبوم الصور
فيديو
المفكرة الاقتصادية
أسعار العملات
راديو الرأى
انفوجرافيك
خريطة الأسواق
جميع الحقوق محفوظة لموقع الرأى الإقتصادى 2015