سراديب النفس البشرية
الأربعاء 17 ديسمبر 2025 -11:33
في إحدى زوايا موسكو الباردة، وتحديداً في عام 1821، بدأ الفصل الأول من حياة رجل قُدر له أن يصبح "أحد أعظم مشرّحي النفس البشرية" في التاريخ.

ولد فيدور ميخائيلوفيتش دوستويفسكي في سكن مخصص للأطباء داخل "مستشفى ماريينسكي للفقراء"، حيث كان والده يعمل طبيباً، وهناك، بين أنين المرضى ورائحة الأدوية والموت الذي كان يزور الأروقة يومياً، تشكل وعي الطفل الصغير، بين ملاعبه التي كانت باحات خلفية يطل منها على بؤس الفلاحين والفقراء.

ورغم صرامة الأب الذي فرض نظاماً تعليمياً قاسياً، كانت الأم هي الرادع الروحي، حتى وفاتها بالسل وهو في سن المراهقة، لتبدأ سلسلة الفقد التي ستلاحقه كظله.

انتقل الشاب الحالم إلى سانت بطرسبرغ لدراسة الهندسة العسكرية نزولاً عند رغبة والده، لكن روحه كانت معلقة بالأدب، وما إن تخرج حتى استقال ليعيش حياة الفاقة بملء إرادته، مراهناً بمستقبله على قلمه.

توفي والده في ظروف غامضة عام 1839، الروايات التاريخية تشير بقوة إلى أن أقنانه (الفلاحين المستعبدين) قتلوه انتقاماً لقسوته.

هذا الخبر ارتبط بأول نوبات صرع معروفة له حوالي 1844، ذلك المرض 'المقدس والملعون' الذي سيصبح لاحقاً سمة مميزة لأبطاله وعلامة فارقة في عبقريته الشخصية.

بعد نجاح 'المساكين' (1846) الذي أذهل النقاد، مرّ بفترة غرور أدبي قبل الانخراط في الحلقة السياسية. انضم لحلقة "بيتراشيفسكي" الفكرية، ليُعتقل في عام 1849 حيث حُكم عليه بالإعدام.

وفي ساحة "سيميونوفسكي"، عاش اللحظة التي صنعت الكاتب الذي نعرفه.

وقف دوستويفسكي مع رفاقه بقمصان بيضاء أمام فرقة الإعدام، وصوب الجنود بنادقهم، وقرأ الكاهن الصلوات الأخيرة، وبينما كان فيدور يودع الحياة، وصل مرسوم قيصري في اللحظة الأخيرة يخفف الحكم إلى النفي مع الأشغال الشاقة.

كانت تلك "المسرحية السادية" للإعدام الوهمي كفيلة بقتل الشاب الثوري بداخله، ليولد مكانه فيدور الفيلسوف المتصوف، الذي سيقضي أربع سنوات في "بيت الموتى" بسيبيريا.

بعد ذلك كانت نفسيته قد تعرضت لشرخ لا يلتئم، شرخ سمح له برؤية العالم بعيون من عاد من القبر.

في منفى سيبيريا (أومسك)، ولأربع سنوات، عاش وسط القتلة واللصوص. حيث حللهم بمشرط جراح. اكتشف هناك أن "الشر" هو حالة إنسانية معقدة، وأن القاتل قد يحمل في قلبه إيماناً أعمق من القديس. وخرج من المعتقل برواية "ذكريات من منزل الأموات".

عاد دوستويفسكي من المنفى رجلاً آخر، ولكن ليس إلى الراحة، بل إلى جحيم جديد اسمه "الروليت".

فخلال رحلاته إلى أوروبا، سقط في فخ المقامرة، وخسر كل ما يملك، وتراكمت عليه الديون، وماتت زوجته الأولى وشقيقه، ليجد نفسه وحيداً ومطالباً بكتابة روايات تحت ضغط الدائنين الناشرين المجحفين، وفي خضم هذه الفوضى، ظهرت "آنا غريغورييفنا"، الشابة التي جاءت لتعمل كاختزالية لتساعده في إنهاء رواية "المقامر" في 26 يوماً فقط، فتحولت من موظفة إلى زوجة، وحارسة مخلصة انتشلته من ديونه وإدمانه، ووفرت له الاستقرار الذي سمح لعبقريته بالانفجار.

في القرن التاسع عشر، وتحديداً في الوسط الأدبي الروسي، لم يكن مفهوم "مدير الأعمال" أو "الوكيل الأدبي" موجوداً بشكله الاحترافي المعاصر.

كان الكُتّاب عادةً يقعون فريسة سهلة لناشرين جشعين أو مجلات أدبية تشترط امتلاك حقوق النشر لسنوات طويلة مقابل مبالغ مقطوعة زهيدة، مستغلين حاجة الأدباء للمال، وهو الفخ الذي سقط فيه دوستويفسكي مراراً. هنا تكمن القيمة المهنية لآنا غريغورييفنا، إذ قررت بجرأة التخلي عن الوسطاء والناشرين المستغلين، وأسست بنفسها دار نشر خاصة لأعمال زوجها. تحت ضغط رهيب، ومن رحم نوبات الصرع التي كانت تتركه محطماً لأيام، أنتج دوستويفسكي أعماله الكبرى.

تميزت عبقريته بـ "التعددية الصوتية" (Polyphony). حيث لا يفرض الكاتب رأيه، وانما يترك شخوصه يعبرون عن أفكارهم المتناقضة بحرية تامة. في "الأبله"، وضع رجلاً طيباً (الأمير ميشكين) في مجتمع فاسد ليختبر انهيار البراءة. وفي "الشياطين"، تنبأ بدموية الثورات العدمية قبل حدوثها بعقود.

في سنواته الأخيرة، سكب دوستويفسكي كل عذاباته وخبراته في أعماله الخالدة، من "الجريمة والعقاب" التي استقرأ فيها نفسية القاتل، إلى "الأبله" و"الشياطين"، وصولاً إلى تحفته النهائية "الإخوة كارامازوف" التي كانت بمثابة وصيته الروحية للعالم.

وحين توفي عام 1881، كانت جنازته طوفاناً بشرياً ملأ شوارع سانت بطرسبرغ، حيث سار عشرات الآلاف وراء نعش الرجل الذي نزل إلى أحلك سراديب النفس البشرية، وعاد ليخبرنا أن الجمال، وفقط الجمال المصحوب بالألم، هو الذي يصنع اعظم الكتاب والفنانين.

تعليقات القراء

أضف تعليق
الأسم
البريد الألكنرونى
التعليق

تعليقات الفيس بوك

أحدث الاخبـــار

الأكثر قراءة

جميع الحقوق محفوظة لموقع الرأى الإقتصادى 2015